22‏/08‏/2018

قصة قصيرة : العائد من السماء بقلم هشام بودرا hibo

عاش ياسر منذ مراهقته شغفه المتمثل في التجوال ليلا على شاطئ البحر متأملا في تلك السماء الشاسعة بنجومها السابحة في الزمن دون توقف ، و أسرارها الغيبية و كلما تقدم به العمر زاد حبه لليل الهادئ و البحر الساكن و السمر على وقع  الموسيقى الهادئة بعيدا عن الضجيج و الصخب المتصاعد و الأجواء المحمومة طيلة اليوم ،  وذات مساء من يوم ربيعي و كعادته في عطلة نهاية كل أسبوع  جهز ياسر نفسه بما يلزم من مآكل و مشرب  و متطلبات ، مصطحبا معه صديقه الوفي كلبه روكي قاصدا البحر للسمر و التأمل و الإستماع لبعض الموسيقى الهادئة والتي تروقه .. و في حدود منتصف الليل.. أرخى ياسر قامته قرب صخرة ضخمة شامخة كأنها الحارس الشخصي  لذاك  البحر المتمرد تارة و الهادئ تارة أخرى   .. جهز ياسر جلسته و اتكئ على وسادة صغيرة إصطحبها معه و شغل بعض الأغاني المحبوبة إلى قلبه في هاتفه النقال  بينما كان كلبه الوفي جاثما بالقرب منه يراقب تصرفاته بإهتمام .. لم يدم  السمر طويلا حينما انتابت روكي حالة من الهستيريا الغير المفهومة .. كان روكي يجري و يقفز كمن لذغه عقرب نحو الشاطئ شاخصا بصره نحو شعاع غير واضح المعالم يربط السماء بوسط البحر .. حاول ياسر تهدئت كلبه لكن دون جدوى خلالها تناول مصباحه اليدوي المضاء و ركز على ذاك  الشعاع القادم من السماء و في غفلة من ياسر هرول روكي هاربا تاركا ياسر في حيرة من الأمر .. تساءل مع نفسه عن سر ذاك الشعاع .. هل هو إنعكاس لشيء ما.. أم إنارة لباخرة ما.. إقترب من الشاطئ بخطوات حذرة .. أحس برعشة تجتاح جسده .. ورغبة في الهروب كروكي .. كلما أمعن النظر أكثر كان ذاك الشعاع يزداد بروزا و إقترابا منه .. هنا فقط شعر ياسر أن الشعاع يستهدفه شخصيا إستدار و حاول الفرار من المكان لكن دون جدوى فقدماه لا تستجيب لرغبته بالفرار .. نظر لساقيه محاولا تحريكهما بيديه .. ماذا أصابني ؟ هل أصبت بالشلل ؟! خلالها رفع رأسه ليتبن مدى إقتراب الشعاع ليتفاجئ بضوء أبيض حاد موجه نحوه مباشرة .. صرخ بكل ما أوتي من قوة و بكى بشدة كطفل  و طلب المساعدة لكن دون جدوى .. و فجأة سحبه ذاك الشعاع في داخله  بقوة دفع هائلة نحو السماء .. بعدها خفث الشعاع شيئا فشيئا حتى إختفى بشكل مطلق.. و بقي إختفاء ياسر المفاجئ مبهما من طرف والديه و أصدقائه و الشرطة أيضا التي أجرت تحقيقا معمقا لكن بدون نتيجة ترجى .. و أغلق ملفه الذي صنفه ضمن الأشخاص المختفين طوعيا وذلك لعدم توصل الشرطة في تحقيقاتها إلى أي معلومات عن موته أو إختطافه .. لكن بقي الأمل بعودته عند كل من عرفه و خصوصا أمه التي بكته كثيرا و أباه الذي لم يترك سبيلا إلا و قصده من أجل عودة إبنه الوحيد .. و كما إختفى فجأة ظهر ياسر بعد خمس سنوات فجأة .. قاصدا  منزل والديه ، اللذان شعرا بمزيج من الصدمة لحال إبنهم المتدهورة و  السعادة التي لا تصفها الكلمات برؤيته مجددا .. عاد و عادت قضيته للبروز مرة أخرى على صفحات الجرائد و التلفاز و موجات الراديو و على النت و شبكات التواصل الإجتماعي .. كان ياسر يتحدث بشكل هستيري و غير مفهوم  و أحيانا بلغة غير موجودة على كوكب الأرض .. عن الخلاص و النهاية و أولائك القادمون مستقبلا لإصلاح أخطائهم على الأرض .. سلسلة من الرويات و الأحاديث الغير المترابطة و الغير المتجانسة جعلت البعض يتهم ياسر بالكذب و الهلوسة .. و إتهمه البعض بالإنفصام و الجنون .. أحدثت قضية ياسر شرخا في المجتمع بين متعاطف و مناوء كما أنها أسالت الكثير من الحبر و سرعان ما تحولت القضية إلى قضية رأي عام .. تدخلت على موجبها أعلى سلطة في البلاد مطالبة بوقف الخوض في القضية .. و لإسكات ياسر زج به في مستشفى للأمراض العقلية تحت حراسة مشددة و بعد ساعات فقط أرسلت المستشفى بأوامر عليا بيانا رسميا إلى كل المحطات و الوسائل الإعلامية المكتوبة و المرئية و المسموعة يعتبر ياسر شخصا مجنون بشكل كلي .. و لا علاج لحالته المرضية ، و بعد شهرين و بضعة أيام .. أصدرت الشرطة البيان التالي عثر على ياسر سعدون منتحرا في غرفته في مستشفى الأمراض العقلية و النفسية، حيث شنق نفسه مستعينا بحبل صنعه من ملابسه .. عممت الشرطة  البيان على جميع وسائل الإعلام محذرة الجميع بعدم الخوض في هذه القضية مرة أخرى .. و دفن ياسر في مكان مجهول .. و تساءل الناس فيما بينهم هل تمت تصفية ياسر أم أنه إنتحر فعلا .. و إستمر لغز إختفاءه و ظهوره و موته محيرا للناس لعدة شهور إلى أن فترت قضيته و طواها الزمن .. و بعد عشر سنوات على رحيل ياسر ظهرت ممرضة هاجرت منذ مدة إلى إحدى الدول الأوروبية كانت تعمل في مستشفى الأمراض العقلية و النفسية أثناء تواجد ياسر به ، حيث تحدثت عن إمتلاكها لمذكرات ياسر الشخصية أثناء تواجده في المستشفى و التي  أودعها عندها .. بعد أن وثق في نبل أخلاقها و معاملتها الحسنة له على خلاف الجميع في المستشفى .. و أخبرها أن هناك من يجهز لتصفيته .. طالبا منها الكشف عن محتواها في الوقت الذي تراه مناسبا لها و لا يتعرض لسلامتها الشخصية.. و أنها قريبا ستكشف سر محتوى المذكرة .. ثم عادت نفس الممرضة بعد يومين ، و نفت الأمر موضحة أنها  كانت تهدف بأقوالها تلك إلى الإساءة للمستشفى بعد أن طردت منه منذ ما يقرب من الثلاث سنوات .. و بعد بضعة أيام تناقلت وسائل إعلام أجنبية نبئ مصرع الممرضة في حادثة سير أثناء توجهها لعملها ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق