04‏/08‏/2018

الإسكندر المقدوني الأكبر .. و الحضارة الهيلينستية بقلم هشام بودرا

الحضارة   الهيلينستية هي تلك الحضارة التي انبثقت من انتصارات الإسكندر المقدوني ، و هي تمزج بين الحضارة الاغريقية و حضارات البلدان التي استولى عليها الإسكندر .. فمن هو الإسكندر المقدوني أو المعروف بالإسكندر الأكبر .. يعد الاسكندر من أعظم رجال التاريخ و هو ابن فيليب ملك مقدونيا .. و عرف على مقدونيا في ذاك الزمان بأنها بلد متوحش بالنسبة للاغريق لأن سكانها ظلوا قرويين و طباعهم و معاملاتهم تتميز بالحدة و عدم اللطف ، إلا أن ذكاء الملك فيليب و دهائه جعله ينتهز فرصة النزاعات العسكرية القائمة بين  المدن اليونانية فغزها و هزمها كلها .. و لكي تقبل هذه المدن الخضوع لحكمه ادعى أن الخطر الفارسي يحيق بهم فما كان منهم إلا أن خضعوا لإرادته إلا أن ملك فيليب لم يدم حكمه طويلا على الإغريق فبعد وفاته تولى إبنه الشاب ذو العشرين سنة سدة الحكم .. كان الاسكندر شابا ذكيا و شجاعا و طموحا و جميلا و ذا تطلعات نحو المجد و الخلود .. و كان يؤمن بأن الآلهة إختارته لتوحيد الإغريق و المتبربرين و ساهمت إنتصاراته الأولى على ترسيخ نبوءته في كينونته فنصب نفسه ملكا على الإغريق و قرر الثأر لهم من هجوم الفرس عليهم أثناء الحروب الميدية ، فقاد جيوشه بكل بسالة و غزى الإمبراطورية الفارسية سنة 334 قبل الميلاد بكل سهولة معلنا ضمها لحكمه و كما اهتم الإسكندر بالحروب إهتم بتشيد المدن فكانت كلها تدعى إسكندرية نسبة إلى إسمه .. و عمل الإسكندر على توحيد الاغريق و الفرس تحت قيادته فقد قال ذات مرة (إن آسيا و أوروبا لا تكونان سوى مملكة واحدة و ليس من العيب أو العار أن يقلد الفرس عادات الاغريق او المقدونيين و لا أن يقتبس الاغريق او المقدونيين من الفرس ، و ينبغي للجميع أن يخضعوا لحاكم واحد و قوانين واحدة ).. و عمل الاسكندر في فترة حكمه القصيرة على تأسيس إمبراطورية عالمية فحاول الوصول إلى أبعد نقطة في العالم المعروف في عصره .. لكن جنوده تخادلوا و تملكم الخوف و الرعب من المجهول فرفضوا اجتياز نهر الهندوس في اتجاه الشرق و تسبب مرضه المفاجئ بعودته بإتجاه مقدونيا و فارق الحياة أثناء رحلة العودة قبل أن يتمكن من تحقيق نبوءته في حكم كل العالم المعروف في زمنه .. ( مازال موت الاسكندر المفاجئ يثير الكثير من الجدل إلى اليوم ، و لحدود اليوم إختلف المهتمون بالشؤون التاريخية في السبب الحقيقي وراء موته في عز مجده و شبابه ، و إذ رجح البعض أن موته جاء بسبب علاقاته الجنسية الشاذة لكن هذا الإدعاء يحتاج إلى دلائل و براهين ) و لم يكن الإختلاف فقط حول موته بل إختلف المؤرخون و علماء التاريخ في شخصية الاسكندر فمنهم من رجح أن يكون نبيا و منهم من قال بأنه كان سفاح ديكتاتوري يهوى الرذائل مع الشباب من عمره و يعمل على نشر الفساد الأخلاقي في المجتمعات التي استولى على أراضها و منهم من يرى الاسكندر بأنه إنسان حكيم و ملك عظيم عادل .. ( لعبت هوليود دورا مهما في تشويه شخصية الاسكندر و إختلفت الأسباب فمنها التجارية و السياسية و ما خفي كان أعظم ) .. و بموت الاسكندر  تقاسم قواده امبراطوريته الواسعة فتأسست ثلاثة ممالك مملكة مقدونيا في أوروبا و مملكة مصر تحت حكم البطالسة و مملكة آسيا تحت حكم السلوقيين و لكن هذه المملكة لشساعتها جدا فقدت أجزاءا منها وتأسست على أنقاضها فيما بعد عدة ممالك و كانت هذه الممالك في عداوة مستمرة فيما بينها مما جعل من السهل غزوها من طرف الجيوش الرومانية فيما بعد ..
و كان لقيام المماليك المترامية الأطراف فوائد جمة منها تضاعف الانتاج و ازدهار المبادلات التجارية .. كما لم تعد اليونان المركز الاساسي للمبادلات التجارية .. فقد تأسست طرق تجارية جديدة و اصبحت موانئ مصر و مدن آسيا مراكز تجارية كبرى .. 
- بالنسبة لمصر فقد اصبح الإقتصاد كله خاضعا لمراقبة الدولة كما كان في عهد الفراعنة .. و عمل الملوك الاغريق على استغلال الفلاحين المصريين أبشع استغلال فاكتسبوا ثروات هائلة ببيعهم القمح المصري و اقتنائهم الفضة و المواد الكمالية .. كما عرفت سواحل آسيا الصغرى مناوشات و تنازعات بين البطالسة و السلوقيين للاستحواذ عليها لأنها آخر مكان تصل إليه الطرق التجارية القادمة من الهند و الصين والشرق الأقصى و كانت هذه الدول تصدر الحرير و القطن و الثوابل و العطور و المجوهرات .. 
- الملوك الاغريقيون يؤسسون عدة مدن : عمل الاغريقيون على تأسيس عدة مدن ذات طابع جديد ، شوارع مستقيمة تحيط بها مباني عالية و تزينها مآثر جميلة مصممة بإحكام و عرفت هذه المدن اختلاط سكاني أقوى مما كان في السابق فهو ينحصر في الاغريق و بعض السكان الاصليين أما الباقون فهم دونهم في المقام و المرتبة الاجتماعية فلم يكن يحق لهم المساهمة في تعيين الاشخاص الذين يسيرون شؤون المدينة و عامة كان سكان هذه المدن قليلا نسبيا ..
و لعب تكاثر المدن الجديدة على انتشار الحضارة  الهيلينستية    فكان السكان يتحدثون اللغة الاغريقية و يعيشون على الطريقة الاغريقية كما كانوا غير ملزمين على دفع الضرائب على خلاف سكان البادية ..
و في مصر فلم تنبثق الحضارة    الهيلينستية إلا في الاسكندرية بينما احتفظت البوادي بحياتها القديمة لعدة أسباب من بينها الطبقية و الفساد السياسي و الظلم الاجتماعي على خلاف المملكة السلوقية  التي  عرفت فيها  الحضارة   الهيلينستية    ازدهارا بسبب تأثريها على الأهالي  .. و على العموم فإن الاغريق رموا بنظريات و أفكار الاسكندر التي تدعوا إلى إنصهار و إنغماس جميع المجتمعات و الحضارات و العرقيات فيما بينها عرض الحائط بل عملوا على استنزاف ثروات البلدان المغلوبة لمصلحتهم وحدهم .. ما ادى إلى عدم بروز الحضارة             بسبب عدم تأثر سكان البادية بها .
- أفكار و معتقدات جديدة : رغم بقاء الديانة الاغريقية قائمة إلا أن الاغريق حاولوا قدر الامكان احترام آلهة الشعوب المغلوبة لأنهم كانوا يعتقدون أن لكل إله مزاياه و قدراته و لتجنب غضبها قام الاغريق بدمجها مع آلهتهم و أضافوا إلى أسمائها الأصلية أسماء آلهتهم فدعوا كل الآلهة السماوية زيوس أو أبلون و مثال على ذلك فقد أطلقوا على أمون إسم زيوس أمون و على العموم كان الناس  يعبدون عدة آلهة في آن واحد و حاولوا قدر الامكان إيجاد آلهة تساعدهم على نيل السعادة في الحياة الأخرى بعد الموت حسب إعتقادهم و قد تأثر الاغريق بالمصريين في هذا الجانب فعبدوا إزيس إلهة الموتى عند المصريين .. 
- التقدم العلمي : بعد إلتقاء حضارات مصر وبلاد الرافدين و اليونان فيما بينها و اتصالهم بالهند و الصين و توفر الثروات عند الملوك الذين عملوا على حماية العلماء و الفنانين و الفلاسفة فقاموا بتكريمهم و أسسوا المعاهد و المختبرات العلمية و المكتبات و يعتبر متحف الاسكندرية و الذي كان يضم ما يقرب من 600000 كتاب شاهدا على مدى الرقي الفكري الذي عرفه ذاك العصر .. و في برغامة اخترع لاول مرة الرق من جلد الخروف و استعمل للكتابة عليه لرخصه من ورق البردي المصري .. و اعتبرت اللغة الاغريقية هي اللغة الاكثر تداولا عند معضم مثقفي ذاك الزمن .. و لو لا احتقار الاغريق للبرابرة و عدم اهتمامهم بحضارتهم لكانت الأمور أخذت مجرى أكثر تقدما .. و من جهة أخرى فإن وفرة العبيد و انعدام الوسائل العلمية التقنية حالا دون الاستفادة من عدة اكتشافات كالطاقة البخارية التي أعتبرت من الاعمال السحرية أو مجرد لعبة يتلهى بها الناس .. و استمرت أثينا ملتقى أشهر فلاسفة ذاك العصر فقد اختلفوا حول السبل المؤدية للسعادة كما حاول تلامذة أرسطو و أفلاطون أن يشرحوا نظام الكون و قد زودوا الفكر البشري بأداة هامة للتفكير و هو المنطق عبارة عن مجموعة من القواعد يستطيع الفكر البشري بواسطتها أن يدرك الحقيقة ..
و في برغامة و الاسكندرية اهتم العلماء بجمع المخطوطات و نسخها و دراستها فنشأت من ذلك بعض العلوم كعلم النحو الذي يدرس قواعد اللغة .. كما عرفت الرياضيات تطورا ملحوظا مع أوقليونس و فيثاغورس الذي عمل على شرح جميع الأمور بإكتشاف الروابط العدية الموجودة بينها و كان أرخميدس أعظم علماء تلك الحقبة فقد كان يتقن علم الرياضيات و الفيزياء و قام بإكتشافات باهرة غيرت مجرى البشرية كما كان له اهتمامات في الجانب العسكري .. 
- كما كان للتنجيم نصيب في هذه الحضارة فد أكد أرستارك أن الارض تدور حول الشمس و أكد أراتوستين أن الارض كروية الشكل و حسب محيطها إلا أنه إرتكب خطأ بسيط .. 
كما شرع نخبة من العلماء على دراسة النبات و الحيوان درسة منهجية فكانوا يصنفونها و يسجلون مواطنها و خصائصها كما ثم إنشاء أول حديقة للحيوانات و النبات في الاسكندرية .. وتعرف العلماء على الدورة الدموية من خلال تشريح و دراسة الجسم البشري ..
- في الميدان الجغرافي صممت الخرائط و التي استمرت مرجعا للعلماء فيما بعد لزمن طويل ..
- التطور الفني و العمراني : انجزت مآثر مدهشة في المدن و الموانئ و ثم تشيد أول  منار في تاريخ البشرية بحيث  تشتعل في أعلاه النار كل مساء لتهتدي بها السفن في ميناء الاسكندرية .. و انشئت عدة مدن بأكملها ووضع لها تصميم منسقة ، فكان ذلك بداية لفن التعمير .. فقد كانت انطاكيا مثلا مجهزة بالمجاري والقواديس و بالماء الصالح للشرب و كانت شوارعها تضاء في الليل .. و في ميدان النحت كان الفنانون يعملون على تصوير الشخصيات و تقليد الحركات و خلقها بإثقان و بكل دقة و يحاولون بعث الشعور الفني عند المشاهد و إثارة إحساساته .. و عرفت البنايات نقوشا عبارة عن زينة تمثل مشاهد مسرحية ، و سيقلد الرومان بعد ذلك انتاجهم الفني و ينقلون عنه طيلة عدة قرون .. و كان ذاك الزمن زاخرا بالإنتاجات الأدبية المشتملة على المسرحيات و الشعر و القصص كما حظي فن التاريخ بتقدير خاص عندهم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق