30‏/06‏/2018

قصة قصيرة : المفكر بقلم هشام بودرا

بدل أن تزرعوا الشر ، إزرعوا الخير ، بدل أن تنفثوا السم من أفواهكم إنفثوا العسل .. لما أنتم هكذا .. أيها البشر .. قلوبكم حجر .. جئنا لمهمة واحدة أيها المفكر الزنديق .. هي قتلك و تخليص الأمة من أفكارك الكافرة  .. دعونا نتحاور .. لا تحاور .. أعطوا لذواتكم فرصة ، إمنحوا عقولكم القليل من الأوكسجين و دعونا نتحاور .. إلتفت المهاجمون  الثلاثة الممسكبن بمسدسات كاتمة للصوت موجهة لوجه المفكر ،  إلى بعضهم البعض تحدثوا بلغة العيون .. ثم أردف قائد المجموعة .. فيما سنتحاور .. أيها العجوز اللعين .. على العموم لقد عشت عمرا مديدا و الموت في هذه الحال ليس ظلما لك .. لكنه ظلم لكم .. ماذا تقصد؟.. ماذا تعلمون عن الحياة و الموت ؟! نعلم ما علمنا  أكابرنا و قادتنا .. و ماذا علموكم ؟ هذا أمر لا يخصك .. أراك متمسك بالدنيا لأنك تعلم أن مصيرك نار مستعرة .. في كلتا الحالتين تحاورنا  أو  لا .. فمصيرك رصاصة في جبينك .. يسحب المفكر سيجارة من علبة السجائر التي كانت بالقرب منه  ، يضع السيجارة بين شفتيه .. و يوقدها بولاعته المذهبة .. هل ستذخن أمامنا ، ربما تكون أخر سيجارة لي .. يتجرع نفسا عميقا و ينفث الدخان من خيشميه .. يتحدث أحد الثلاثة زنديق يريد أن يلاقي الموت و ثغره تفوح منه رائحة السجائر الكريهة .. كان المهاجمون يراقبون تدخينه بتأمل بعد أن أغمض المفكر عينيه متأملا في مصيره المحتوم .. إسترسل المفكر يتمتم بكلمات بصوت خافت حاول المهاجمون تبينها .. ثم صاح قائد المجموعة بماذا تتمتم أيها الأخرق ؟ 
لقد إشتقت إلى أمي .. لقد كانت قاسية معي .. مازلت أذكر حينما رفضت أن أهاجر خارج البلاد .. و أن أكمل حياتي هنا في هذا الوطن اللعين .. حينها لم أكن سوى حثالة .. لم يكن أحد يخال أن الحثالة بعد 50 سنة  سيتحول إلى أسطورة في الفكر الإنساني المعاصر .. الحثالة دونت إسمها بحروف من ألماس في تاريخ الإنسانية .. و ها هو الموت يزورني في قلب منزلي الفخم .. لأرحل عن الدنيا  كبطل قتل شهيد فكره و علمه .. بيد مجموعة ضالة  ترى الحياة من وجهة نظر واحدة .. الأخر مادام ليس معها فهو ضدها، عدو وجب التخلص منه .. استثار أحد المهاجمين غضبا لنقتله و نرحل لقد طفح كيلي منه .. يهدئه قائده .. يوجه القائد كلامه للمفكر .. كيف تحولت إلى مفكر يشغل عقول الناس في كل مكان؟ يستوي المفكر واقفا يتمايد في مشيته نحو ثلاجة صغيرة في زاوية المكتب .. يسحب قنينة خمر من النوع الرفيع و يعود إلى مكان جلوسه الأول يستوي على الأريكة جيدا  كانت أعين المهاجمين تراقب الرجل ،  عم الصمت المكان لوهلة .. صب المفكر بعض الشراب في كأس كان فوق المنضدة  بقربه تجرع ما في الكأس دفعة واحدة .. أعاد  الكأس ووضعه بالقرب من قنينة الخمر على المنضدة .. أشعل سيجارة أخرى ثم إستفاض في حديثه .. لم أكن أتصور و لو في أحلامي أنني قد أتحول إلى مفكر يشغل الدنيا و الناس .  و تترجم كتبه و أفكاره و مجلداته  لعشرات اللغات الحية ، ربما الحظ و ربما القضاء و القدر .. لطالما أحببت القراءة و عشقت عالم الفكر و الفلسفة و المنطق ، فاتخذت من الشك مذهبا و  من التجربة  رسولا..  في مراهقتي  تركت منزل الوالدين بسبب خلاف مع أبي .. كان رجلا ديكتاتوريا متسلطا .. لطالم تمنيت له  موت .. عشت زمنا لا بأس به متشردا متسولا أقتات في طعامي على حاويات الأزبال في زمن كانت البلاد تمر في مرحلة إقتصادية و إجتماعية جد جد صعبة .. نمت على الأرصفة و في الأماكن المهجورة .. و تحت  الجسور ، لم أكن مقيدا بقيود الأسرة أو العمل أو النفاق الإجتماعي كنت أشعر بحرية لا حدود لها  ، كان حلمي الوحيد  منصبا حول  الهجرة و الفرار  من هذا الوطن اللعين إلى أوروبا الغربية في ذاك الزمن أو لما لا أمريكا أرض تحقيق الأحلام  ، كان هوسي هو البحث عن المال ، المخدرات ، الشهوات  ، الفتيات الجميلات .. و ذات ليلة دامسة كنت أتأمل السماء و النجوم .. و تبادر إلى ذهني أسئلة كثيرة  .. من أنا؟ لما أنا موجود في هذه الحياة ؟ هل سأبقى متشردا هكذا مدى الدهر ؟ ما الذي أحتاجه لأغير مجرى الأحداث في حياتي ؟ 
 .. و بعد حديث مع الذات إستنتجت أن الإرادة و العزيمة هما مفتاح ولوج حياة جديدة كلها أمل في مستقبل مشرق  ، عدت لمنزل الوالدين بعد بضعة سنين كان أبي قد مات و أمي تعاني من المرض و الخرف و أيامها في الدنيا معدودة .. إلتحقت  بالدراسة كطالب حر و بعد كفاح و إجتهاد تحصلت على الشهادة الثانوية التي خولت لي التسجيل في  الجامعة شعبة الفلسفة و الفكر الحر و بعد عدة سنوات من المثابرة نلت شهادة الدكتوراه بإمتياز  خولت لي  الإنضمام لهيئة التدريس في الجامعات الوطنية و الدولية ،ترافق ذلك مع الإنتشار الواسع الذي عرفته مؤلفاتي و كتبي و مجلداتي في الفكر و الفلسفة.. رفع المفكر بصره في المهاجمين المدججين بالمسدسات الكاتمة للصوت .. ما أنا عليه اليوم هو نتاج تجربة قاسية نشأة و ترعرعت في الشارع ..  يقاطعه قائد المجموعة بسؤال.. هل تكره أباك ؟ لا أعلم ربما نعم .. ربما لا .. يترك المهاجمين منزل المفكر و يغادرون المنطقة في سيارة سوداء كانت في إنتظارهم .. يتوجه  أحد المهاجمين لقائد المجموعة بسؤال .. ألن نقتله كما أمرنا؟ فكان رد القائد سريعا : ليس علينا القيام بما نأمر به دائما ؟ فإغتياله لن يفيد قضيتنا .. بل سيحوله إلى بطل أسطوري في نظر الناس .. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق