18‏/02‏/2019

ريتشارد بيرتون .. رجل المغامرات و الترحال مقال بقلم هشام بودراhibo


في التاسع عشر من مارس من سنة 1821ولد الكاتب و الرحالة ريتشارد بيرتون في بارم هاوس بمقاطعة هارتفورد شاير بإنجلترا في عائلة رفيعة النسب من أصل مزيج من الدم الإيرلندي و الاسكتلندي و الفرنسي .. و من سوء حظ بيرتون وهو صغير أن جده لأمه قرر أن يكتب كل ثروته له .. و أثناء توجه الجد إلى المحامي لكتابة الوصية .. أصيب بوعكة صحية في الطريق و فارق الحياة .. و بهذا خسر بيرتون الطفل الصغير كل الثروة لصالح خاله ..
عاش بيرتون هائما في حياته كلها .. بحيث لم يعرف الإستقرار أبدا .. فقد كان أباه الكولونيل المتقاعد مصاب بداء الربو فكان في ترحال مستمر بين إنجلترا و أوروبا .. 
تعلم بيرتون إستعمال المسدس و المبارزة بالسيف و المصارعة في سن مبكرة جدا .. و في سن التاسعة عشر إلتحق بجامعة اكسفورد .. و يعتبر بيرتون أن هذه الفترة من أسوء فترات حياته .. فالأنظمة كانت صارمة و الغرف رطبة و الطعام جد رديء و أجراسها التي لا تتوقف عن القرع .. و رغم ذلك فقد كان بيرتون متفوق في دراسته .. بحيث كان شغوفا بالقراءة لساعات طوال للكتب عن  الثقافات و الحضارات الأخرى و التعلم المستمر .. و إلتحق بيرتون في الجامعة بقسم دراسة العربية .. لكنه وجد أسلوب تدريسها بطيء .. فإعتمد على نفسه في تحصيلها .. و تمكن من ذلك في زمن وجيز .. 
رحلته إلى الهند:
بعد تخرج بيرتون من الجامعة إلتحق بالجيش في الهند .. رافضا رغبة أبيه في أن يتحول إلى رجل دين .. و في يونيو من سنة 1842كان بيرتون في الهند .. حيث أقبل على الحياة هناك بنفس أسلوب الهنود ..فإرتدى  أزياءهم  .. و تزوج هندية تركها فيما بعد ،  و إنغمس في تعلم الديانة البراهمية .. و الحيل في ترويد الخيول و الأفاعي .. 
و من طرائفه التي حدثت معه هناك .. أنه عمل على تربية 40قردا في منزله ليدرس أسلوب حياتها و لغتها .. و يذكر بيرتون أنه إستطاع أن يميز بين ستين كلمة تستعملها القردة فيما بينها كما دون كل ملاحظاته عنها .. و تعرض منزله للحريق فأتى على كل تحفه الشرقية التي كان مولوعا بجمعها إضافة لملاحظاته المدونة .. 
و مما يسرده بيرتون عن تلك المرحلة أنه نظم القردة كأنهم فرقة عسكرية وأعطى لكل فرد منها مرتبة عسكرية .. و كان يجلس معها على مائدة الطعام و لكل منها كرسيه وطبقه .. 
لم يكن بيرتون محبوبا لدى قادته في الجيش .. نظرا لتصرفاته و عقليته الغريبة .. فقرر العودة طواعية إلى بريطانيا في سن السابعة والعشرين .. بعد أن عاجل الموت فجأة حبيبته الإيرلندية في الهند .. 
عودته و زواجه :
في بريطانيا حاول تدوين مذكراته أثناء تواجده في الهند .. إلى أن إلتقى بفتاة لندنية من إحدى العائلات النبيلة و تدعى إيزابل التي أحبت بيرتون بشكل جنوني .. فتزوجا و تقول إيزابل عن بيرتون (لو كان بالإمكان أن أصير رجلا لتمنيت أن أصير ريتشارد بيرتون .. و لكن بما أنني لا أستطيع ذلك ، فإن ما أتمناه هو أن أصبح زوجته)
رحلته إلى الحجاز :
بعد أن مل حياة الرتابة في لندن قرر أن يتحول إلى رحالة و مستشرق .. فوافقت الجمعية الجغرافية الملكية و شركة الهند الشرقية على أن تمولا رحلته إلى الحجاز لكشف أسرار المنطقة .. و أثناء رحلته خلع بيرتون ملابسه الأوروبية و إرتدى ملابس عربية و إنغمس داخل المجتمع هناك كأي مواطن عربي ليكتب فيما بعد كتابه الشهير المكون من جزأين الحج إلى المدينة و مكة ..
رحلات أخرى : 
خاض بيرتون في حياته عدة مغامرات و رحالات .. و نذكر منها على سبيل المثال إكتشافه لمناطق مجهولة بالحبشة .. و في الحبشة كاد يفقد حياته بعد أن أصيب بضربة حربة في فكه السفلي و عنقه تركت آثار لازمته طيلة حياته .. و دون تفاصيل هذه الرحلة في كتاب سماه أول الخطوات في إفريقيا الشرقية .. و بعد نشر هذا الكتاب حصد بيرتون  شهرة واسعة في أوساط العامة .. 
كما حاول بيرتون إكتشاف منابع النيل و هو الموضوع الذي شغل المستكشفين في القرون الماضية .. كما سافر إلى أمريكا للتعرف على جماعة المورمون فيها .. وقبل سفره إرتدى الجاكتة السوداء الطويلة و اعتمر القبعة العالية فبدا بلباسه هذا كأحد أفراد هذه الطائفة .. و نتج عن هذه الرحلة كتابه الممتع .. مدينة القديسين ..
بعد العودة من رحلاته :
عاد بيرتون من رحلاته و هو متعب و يعاني من الحمى .. فقرر الإستراحة و البحث عن عمل في وطنه .. لكنه لم يجد أي عمل يناسب إمكانياته و مواهبه .. ما إضطره وضعه المادي  بقبول وظيفة في القنصلية الإنجليزية في جزيرة فرناندو بو الإسبانية على الساحل الغربي من إفريقيا .. و كانت وزارة الخارجية ترى في هذا المكان منفى ترسل إليه الأشخاص غير المرغوب بهم في إنجلترا .. و علق بيرتون على الأمر قائلا:(لقد أرسلوني إلى هنا لأموت ، و لكني سأعيش رغما عن أنوفهم )
و بعد مدة وعدة وساطات تقرر نقل بيرتون إلى سانتوس بالبرازيل .. و لم يكن المكان الجديد أفضل حالا من السابق (توضيح..في هذا الزمان كانت البرازيل فقيرة جدا و متخلفة و أشبه بالدول الإفريقية حاليا).. قاس بيرتون و زوجته كثيرا في هذا المكان الغارق في التخلف .. فاتخذ من الشراب حلا لمشاكله حيث أسرف في الشرب حتى كاد لا  يصحوا .. و تدهورت صحته بشكل ملفت للعيان .. فقال عنه صديقه الرحالة الشاعر الإنجليزي ولفريد سكاوين بلنت حينما إلتقاه في بوينس آيرس (كان في أسوأ حال ، فكأنه مجرم لم يغادر السجن إلا منذ لحظات : فجاكتته السوداء قذرة بالية ، و بنطلونه لم يعرف الكي منذ زمن ، و قميصه مفتوح عن صدره .. و عيناه بدتا لي كعيني حيوان مفترس ينتظر لحظة الإنقضاض ، و لكنه مع هذا كان يبدو لزوجته أجمل رجل في الدنيا)
و بعد وساطات كثيرة وطويلة حصل بيرتون على مراده و هو توظيفه في دمشق كقنصل عام .. وبمرتب قدره ألف جنيه في السنة .. و هو مبلغ لابأس به في ذاك الزمن .. 
و حينما وصل بيرتون و زوجته إلى دمشق و إستنشق هواء غوطتها فنظم قصيدته التالية :
ما أجملك ، يا دمشق!
أنت قديمة قدم التاريخ 
ندية كأنفاس الربيع 
متفتحة كالبراعم 
فواحة كالورود
عبقة برائحة زهر البرتقال 
ما أجملك يا دمشق 
يا لؤلؤة الشرق!
في دمشق ربط صلات قوية مع العائلات الدمشقية .. و أصبح الجميع يطلق إسم الحاج عبدالله .. و هنا أصبح صديقا وفيا للأمير عبدالقادر الجزائري .. و كان الأمير حينها في 64من العمر حينما .. حل بيرتون بدمشق ..(توضيح منح لويس نابليون الحرية للأمير عبدالقادر الجزائري سنة 1857و إتخذ الأمير سوريا كمنفى له)
في دمشق نزع بيرتون ملابسه الأوروبية و إرتدى الملابس الدمشقية و تحول منزله لملتقى وجهاء القوم و شيوخ العشائر ..
لم تكن حياة بيرتون و زوجته دوما هنية في دمشق .. فقد ساد إعتقاد لدى المسلمين هناك  أن زوجة بيرتون ليست سوى مبشرة كاثوليكية .. في زمن كان للتبشير  أهمية كبيرة لدى الكنيسة .. و لقي بيرتون نفسه عداوة من المسلمين الذين كانوا يشكون في كونه جاسوسا و ضغينة لدى قومه و المبشرين الذين هاجموه و اتهموه بالجنون و الغرور .. لميوله اللادينية .. 
و سرعان من إشتد الهجوم عليه من المبشرين بعد أن منعهم من توزيع النشرات التبشيرية .. و أمرهم بعدم خوض أي جدال مع المسلمين حول الدين .. لأنه كان يخشى أن تحدث مواجهات دامية كما حدثت في سنة 1860و نقل المبشرون إحتجاجهم على بيرتون لجمعياتهم في بريطانيا ..  ما خلق له عداوات جديدة في وطنه ..
وكرهه اليهود الإنجليز الذين كانوا يعيشون في سوريا و يمثلون أصحاب البنوك في أوروبا .. بسبب مطالبته إياهم بعدم فرض فوائد كبيرة على القروض الممنوحة للسوريين .. و قد عبر بيرتون عن كرهه لليهود في كتاب ألفه عنهم  .. ما أثار عليه زوبعة من الضغينة و النقد في بريطانيا ..
و لم تتوقف المشاكل التي تطارد بيرتون لهذا الحد .. فأثناء تخييمه في الناصرة مع زوجته إيزابل .. حاول أحد الشباب من طائفة الإرثوذكسية اليونانية .. إقتحام خيمة إيزابل فرآه أحد الحراس و إنهال على الشاب بالضرب .. و أثناء خروج المصلين من الكنيسة تعاطفوا مع الشاب و هجموا على المخيم و رجموه بالحجارة .. و أثناءها خرج بيرتون من خيمته و أطلق الرصاص في الهواء ما جعل الجميع يفر من عين المكان .. لكن الكنيسة لم تغفر له هذا الموقف فرفعت عريضة شكوى إلى وزارة الخارجية البريطانية موقعة من طرف كل رجال الطائفة البارزين في بلاد الشام .. إلا أن الوزارة سكتت عن الأمر عن مضض و غيظ ..




خلاف بيرتون مع الوالي التركي رشيد باشا:
كان الخلاف بين بيرتون و الوالي التركي رشيد باشا حول فرقة صوفية شاذلية كان بيرتون معجب بأفكارها و معتقداتها ما جعله يطلب من وزارة الخارجية أن تمنح الفرقة بقعة أرض ليقيموا عليها زاوية خاصة بهم .. فما كان من الوالي إلا أن إعتقل زعماء هذه الفرقة التي كان يرها ضالة و تنشر أفكارا مخالفة للإسلام و مصادرة أملاكها .. وأثناء ذلك حاول بيرتون أن يحرر معتقلي الفرقة  بالقوة .. و سبق أن أرسل الوالي عدة شكاوى لوزارة الخارجية البريطانية يتهم فيها بيرتون بدس أنفه في الشؤون الداخلية لبلاده .. و بعد أن طفح كيل وزارة الخارجية من تصرفات قنصلهم ثم إستدعاءه للعودة إلى لندن ..
 في يوم 17أغسطس 1871أثناء مغادرته ودعه الآلاف من المواطنين من بينهم الأمير عبدالقادر الجزائري .. و بذلك غادر بيرتون الشرق الذي قضى به ما يقارب من سنتين .. و شبه خروجه من دمشق بخروج آدم من الجنة بإستثناء أنه لم يرتكب أي ذنب غير أنه ناصر من آمن بأنه حق و عدل ..
تريسته .. و ألف ليلة و ليلة : 
رفض بيرتون قبول وظيفة الحاكم العام لمديرية درفور بسودان .. وقبل وظيفة قنصل في تريسته .. وهناك أنهى ترجمته لكتاب ألف ليلة و ليلة .. و من أجل هذه الترجمة مازالت صورته حتى اليوم تزين قاعة الإجتماعات بمعهد اللغات الشرقية و الإفريقية بجامعة لندن ..
نشرت هذه الترجمة لأول مرة في صورة كاملة غير مهذبة سنة 1883و في عشر أجزاء ضخمة .. و نجحت نحاحا باهرا في بريطانيا .. وجنى بيرتون من الطبعة الأولى فقط ما يقارب من 16ألف جنيه ثم نشرت بعد ذلك في 16جزءا (1885-1888م)
ترجمة بيرتون لألف ليلة و ليلة لم تكن حرفية بل كانت حرة ..إستعمل فيها بيرتون أسلوبه الخاص الخشن و قوة لغته الإنجليزية..
تدهور حالته الصحية:
و قبل رحيله عن العالم ببضعة سنوات .. منحته الملكة فكتوريا لقب سير .. تقديرا لمجهوداته في ميدان البحث و الإكتشاف .. و منحته الجمعية الجغرافية البريطانية و الفرنسية مداليتين ذهبيتين لمجهوداته في خدمة البشرية ..
حلت سنة 1890فبدى بيرتون إنسانا محطما يعاني المرض و الروماتزم .. ليرحل عن هذا العالم بعد أن عاش أحلامه في كل منطقة جغرافية زارها ..
و في مقبرة مورتليك يرقد بيرتون في ضريح بني على شكل خيمة عربية من الحجارة والرخام..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق