عنوان المقال : للاعيشة مولات المرجة ..
تزخر المجتمعات في شمال إفريقيا بمعتقدات غنية بالأساطير و الخرافات و التي تحتوي على عدة أبعاد منها الدينية و الوثنية و الصوفية و العقائدية و تحمل حمولة ثقافية تمزج بين الخيال و الحقيقة و التي تميز هذه المجتمعات عن غيرها ..
و سنتطرق في مقالنا هذا عن شخصية غزت عقول المغاربة جيلا بعد جيل بين مصدق لوجودها و من يراها مجرد حكاية خرافية من إرث الأجداد .. و هي للاعيشة مولات المرجة (سيدة الواد أو العين أو المستنقع)..
موسم ضريح علي بن حمدوش:
موسم عقائدي تمتزج فيه الصوفية بالشعوذة بالخرافة .. ينطلق هذا الموسم في ما يعرف بالمولد النبوي .. في منطقة تدعى المغاصيين تبعد عن مكناس ب20كيلومتر.. يتوافد على هذا الموسم عشرات الآلاف من النساء و الفتيات العازبات و الرجال و المثليين .. حاملين معهم الهدايا و القرابين و الذبائح و النقود لتقديمها للضريح للحصول على البركة و الرزق و الأزواج و العلاج من المس و غيرها من الأمور .. في طقوس مليئة بالأمور الغريبة و العجيبة و المثيرة للجدل .. و يبدء الموسم تحديدا في ساحة لهديم بمكناس بطقوس تتمثل في آكل جدي أسود على قيد الحياة .. من طرف المجدوبين(مصطلح يطلق على الذين يعتقد أن بهم مس جن )..
على إيقاعات عيساوة أو كناوة أو حمادشة.. و بعدها يتوجهون إلى الموسم حيث يقبع ضريح علي بن حمدوش لبدء مراسيم الإحتفالات و إحياء ليالي الجذبة على طول الأسبوع على أنغام الموسيقى التي تقدس القدرات الخارقة للعفاريت و الجن ..
و يشهد الموسم رواجا إقتصاديا كبيرا لتلك المنطقة النائية المهمشة و الفقيرة ..
يعرف الموسم حذر كبير من سكان المنطقة و المشعوذين و الدجالين من تواجد الصحافة كما يمنع إلتقاط أي صور للموسم أو الإحتفالات .. و يشهد الموسم توافد أعداد غفيرة من سكان عدة مدن قريبة من المنطقة .. منهم الأغنياء و الفقراء و المتعلمين و الأميين من بينهم شخصيات فنية و سياسية للتبرك بالموسم ..
من هو علي بن حمدوش:
اختلفت الروايات حوله لكن أحفاد أخ علي صرحوا بأنه من سلالة رجل الدين الصوفي عبدالسلام بن مشيش مؤسس الطريقة الصوفية الشاذلية بالمغرب و أن الحمدوشية هي امتداد لهذه الطريقة ..
و من المرجح أن علي كان رجلا زاهدا من الدراويش يقضي جل وقته في الصيام و الصلاة و كان يجلس أمام باب جامعة القرويين و يعيش حالة زهد تام .. و تقول بعض المصادر أن علي بن حمدوش طلب من أحد أتباعه و يدعى أحمد الدغوغي و ضريحه يبعد عن ضريح علي بحوالي 2كيلومتر .. أن يذهب إلى السودان و يحضر له إمرأة سمراء زاهدة تدعى عيشة تعيش على الزهد في أحد المناطق ليتزوج بها ..(ليس المقصود بالسودان الدولة الموجودة حاليا .. في ذاك الزمن كانت الدول الإفريقية التي تحادي دول شمال إفريقية تدعى بالسودان )
توجه أحمد بالفعل إلى تلك البلاد و وجد المرأة كما وصفها له علي بن حمدوش .. و عند وصولهما للمغرب إكتشف الإثنين أن مولاهم علي بن حمدوش قد فارق الحياة شابا ..
للاعيشة الزوجة التي لم تتزوج علي بن حمدوش:
إختلفت الروايات حول للاعيشة و ماذا حصل لها بعد قدومها للمغرب .. لكن من المرجح أن للاعيشة حينما علمت بموت سيدها علي توجهت إلى شجرة تدعى الكرمة و ظلت تبكي هناك حتى حصلت على البركة و قوى خارقة و تستطيع من خلالها شفاء جميع الأمراض النفسية و الجسدية و مس الجن و غيرها و علاج ما لم يستطع الطب الجسدي و النفسي في الدول المتطورة علاجه .. و هناك رواية أخرى تتحدث عن تعرض للاعيشة لمحاولة الإغتصاب من طرف عدة رجال أثناء عثورهم عليها و هي تبكي .. و أثناء الإغتصاب تحولت فجأة بقدرة خارقة إلى رجل بلحية و أعضاء تناسلية و رغم ذلك تعرضت للإعتداء و هذا ما يراه المثليون أن للاعيشة تسكن أجسادهم .. و يأتون لزيارتها كل موسم ..
و يعتقد البعض أن روح للاعيشة تحوم في المكان لتحمي من تراه مناسب للحماية من أي مكروه أو شر و تلعن من تراه يستحق ذلك ..و تظهر من حين لآخر بصفات مختلفة ..
أداء مراسيم الزيارة :
بحسب مصادر مطلعة أكدت أن بداية أداء مراسيم يتم عبر زيارة ضريح أحمد الدغوغي أولا ثم النزول لحفرة للاعيشة الحمدوشية .. و هناك يقوم الزائر بإشعال الشموع و رش ماء الزهر و تقديم الهدايا و القرابين و الذبائح كل حسب إستطاعته .. بعدها يتوجه الزائر إلى قبة ضريح علي بن حمدوش .. و في المرحلة الأخيرة يتم الإستحمام بماء عين للاعيشة المباركة في غرف صغيرة ..
الكرنة أو المجزرة :
هناك بعين المكان يوجد كرنة أو مجزرة يشعل فيها الزائر الشموع و يقدم قربانه و يتمنى ما شاء من الولي الصالح علي بن حمدوس حسب زعمهم .. و في المكان يفترش أحفاد أخ علي المكان للدعاء للزوار و الحصول على بعض النقود و يسمى بالفتوح .. و مفروض على كل زائر شراء قنينة ماء زهر لتقبل أمنيته ..
مزار للاعيشة :
لا يوجد ضريح أو مكان دفن للاعيشة ..فقط هناك أحجار سوداء متماسكة و دخان شموع و روائح البخور القوية و جمع غفير من المريدين و الدجالين و المشعوذين و الباعة المتجولين و الزوار خاصة الفتيات و النساء اللواتي يتهافتن على نثر الحناء و إشعال البخور و الشموع .. و تقديم الهدايا و الذبائح .. للتبرك و الحصول على متمنياتهم من للاعيشة ..التي تسكن روحها المكان حسب زعمهم ..
لكن ما يخفى عن الزوار و المريدين أن ذبائحهم و قرابينهم تباع في الخفاء إلى سماسرة الجزارة و الذين يجوبون الموسم بأثمنة بخصة ..
و تختلف روايات اللواتي يزرن مزار للاعيشة .. بين من يتمنى منها الزواج أو الشفاء من مرض جسدي أو مس من جن أو تجنب العين و شرور البشر و هناك من يتحدث أن للاعيشة تسكن أجسادهم و عليهم زيارتها لتعم بركتها عليهم و تجنب سخطها ..
كراء شجرة الكرمة المباركة :
يتجاوز كراء شجرة الكرمة قرب المرجة أو العين ب35ألف دولار أمريكي لشخص ما كل سنة .. و بموجبها يحصل المكتري على حق التصرف في كل القرابين و الأضاحي التي تذبح بالمجرزة المجاورة للكرمة كما له الحق الحصول على المجوهرات و الأموال التي يجود بها المريدين من أجل الحصول على البركة و تجنب الشرور ..
منظر الشجرة أتناء الموسم يكون مقزز فهي مغطاة بأكوام من الملابس الداخلية التي يتخلص منها المريدين بعد الإستحمام في غرف صغيرة بعين المكان عبر الماء المقدس للاعيشة من عين ماء ينصب من جبل قريب .. و عملية رمي الملابس الداخلية جزء من الطقوس لتجنب النحس و الحظ السيء ..
ضريح أحمد الدغوغي:
و هو ضريح يرقد فيه أحمد الدغوغي خادم و أهم أتباع علي بن حمدوش.. و يشهد الضريح طقوسا غريبة متمثلة في الجدبة و التحيار على أنغام موسيقى كناوة و عيساوة و حمادشة التي تتغنى بملوك الجان كجزء من تقديم الولاء و البيعة لها ..
حيث بمجرد إنطلاق الموسيقى تبدء أجساد المرضى و من يظنون أنهم بهم مس من الجن بالتحيار و الرقص بشكل هيستيري .. و قد يقدم بعض المجذوبين بضرب أجسادهم بالسكاكين أو شرب الماء المغلي أو أكل بعض الحيوانات على قيد الحياة كجزء من الطقوس .. و في نهاية الجذبة ينهار المريض على الأرض و أحيانا قد يفارق الحياة .. لكن غالبا من يستفيق من غيبوبته ليعود لحالته الطبيعية دون أضرار تذكر ..
و هنا يتوافد عدد من المثليين الذين يظنون أن روح للاعيشة تسكنهم .. كجزء من طقوس العلاج النفسي لهم و لميولاتهم الجنسية ..
للاعيشة بين الحقيقة و الخيال :
لا يمكن الجزم بصدق وجد هذه الشخصية أو عدم وجودها .. نظرا لصعوبة رصد و دراسة هذه الظواهر الغريبة و العجيبة لإنعدام المعلومات الحقيقية و تغلب الجانب الخرافي و الأسطوري على الجانب الحقيقي و الواقعي ..
لكن تبقى شخصية للاعيشة من أبرز الشخصيات الميثافيزية في الثقافة المغربية لما تحمله من حمولة غرائبية ذات قوى خارقة لدى المتلقي الملم بهكذا أمور خصوصا في مجتمع يعرف نسبة أمية واسعة و متشعبة .. و إيمانا يقينيا بالخوارق و الأضرحة و الأولياء الصالحين الذين عاشوا في زهد مطلق ..
لقد تطرقنا في موضوعنا هذا لجانب واحد من شخصية للاعيشة .. لكن هناك عدة روايات أخرى تسرد قصص أخرى للاعيشة .. منها من يرجح أن للاعيشة ليس سوى بطلة حاربت المستعمر بعدما قتل جل رجال قبيلتها و هناك من يتحدث أن للاعيشة هي نفسها عيشة قنديشة إحدى ملكات الجن ..
و تبقى هناك بعض المصادر و الأشخاص الذين تحدثوا عن رؤية للاعيشة في بعض المناطق و الغابات النائية أثناء سفرهم ليلا ضمن الإيمان بالقوى الخفية في الأماكن المهجورة و النائية ..
رأي علم الإجتماع في هذه الظواهر:
يرى علم الإجتماع أن ظواهر الأولياء و الأضرحة و الكائنات الأسطورية تدخل ضمن سوسيولوجيا الدين .. و أن الإنسان يلجأ لمثل هذه الأمور لكونه لا يستطيع أن يتحمل وضعية القهر و العجز و يتقبلها بوضعيتها المادية .. لذا لا بد له في كل الحالات من الوصول إلى حل ما يستوعب مأساته .. و السيطرة عليها و إلا أصبحت الحياة مستحيلة .. فإذا لم تتيسر له الحلول الواقعية .. إستعان بالحلول الخرافية و الشعوذة و التوسل و البكاء للأضرحة و الأولياء و الأحجار .. و من المستنتج أن الممارسات الطقوسية في المزارات و الأضرحة تشكل جزءا من القيم المترسخة و الذائبة في المجتمعات التي يغلب عليها الطابع الأمي إضافة إلى الجهل و الفقر .. كما قال باريتو : إن الاعتقادات الجماعية يتم تثبيتها عندما تكون نافعة .. أي عندما تخدم مصالح بعض الفئات..
و يمكن إستنتاج من هذه الطقوس هو أن الانسان .. يحاول إلباس هذه الممارسات و المعتقدات الخرفية لباسا عقائديا يجعلها تصل مباشرة إلى قلبه المقهور .. و يربطها بإيمانه الديني .. و هذا ما يزيد من سيطرتها عليه .. و يدفعه إلى التمسك بها .. و تصل الخرافة إلى مرتبة تعطيل الفكر النقدي و العقلاني للأمور و التحليل الموضوعي للواقع..
ملاحظة : تبقى الخرافات و الخزعبلات جزء لا يتجزء من ثقافة كل مجتمع في هذا العالم الشاسع و هناك بعض الخرافات التي يتجاوز مؤمنيها و أتباعها عشرات آلاف الملايين و مستعدون أن يموتوا في سبيلها .. و هناك من يلعب على هذا المنوال لجني المال و الأرباح على حساب ضعاف العقول و النفوس و المرضى الباحثين عن الطمأنينة النفسية و المادية .. و هناك من يعتبر الأمر مجرد متعة لإشباع رغباته النفسية و الجسدية المكبوثة ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق