ليلة إعدام الأسرة القيصرية الروسيّة في 17 تموز/ يوليو 1918، في مدينة يكاترينبورغ على يد خليّة من الأمن السرّي التابع للجيش الأحمر (تشيكا) بقيادة ياركوف يورفسكي، أُشيع إنّ الإمبراطورة ألكسندرا فيودوروفنا حملت حول عنقها ميدالية ذهبية، فيها صورة راهب أرثوذكسي مُتجهّم الوجه عظيم اللحية، تبدو نظرته إلى المُصوّر أثناء التقاط الصورة مُريبة لا توحي بالطمأنينة.. إنّه غريغوري يفيموفيتش راسبوتين، الذي حيكت عنه أساطير كثيرة داخل الأسرة القيصرية وفي عموم روسيا.
وقيل إنّه تنبّأ بسقوط العرش إذا ما اشترك أحد من الأسرة الإمبراطورية بمؤامرة ضدّه، وذلك حدث بالفعل، فقبل إعدام العائلة القيصرية بسبعة أشهر كانت جثّة راسبوتين قد ألقيت فوق نهر النيفا المُتجمّد.. مَن كان هذا الشخص؟ كثيرون اعتبروه، وبينهم الإمبراطورة، قدّيساً من القدّيسين، فيما آخرون رأوا أنّه الشيطان بعينه أو كاد يكونه.
تحتفظ الذاكرة الشعبيّة الروسيّة بالمشاهد الأولى لانطلاقة راسبوتين كرجل دين، ومُجمَل الصورة التي رُسِمت له أنّ غريغوري يفيموفيتش، ولِدَ في 22 كانون الثاني 1869، وهو إبن فلاح من قرية نائية في أعماق سيبيريا. ويُقال إنّه كان نَحْساً على أسرته. عندما كان في الثانية عشرة من عُمره اشتعلت النيران في المنزل وأتت عليه فماتت أمّه، ثم جرفه النهر مع أخيه ميخائيل حين كانا يلعبان على الضفّة، فلقي ميخائيل حتفه فيما نجا غريغوري لكنّه كان في غيبوبة طويلة، أفاق منها وهو يدّعي أنّه يتمتّع بقوى روحية وأنّ لديه رؤى وتنبوءات، حتى أنّه ادّعى قدرته على شفاء الجروح بمُجرّد لمسها.
تزوّج وهَجَر أسرته الجديدة، وطاف مع مَن كان يُسمّون بالحجّاج الجوّالين في أصقاع روسيا، وكان يقف في الأسواق أو على شرفة منزل مُطلّ على جَمْعٍ من الناس في القرى والبلدات ويصرخ مخاطباً إياهم باسم الله. لكنّه سرعان ما كان يمثل أمام الآباء الكنسيّين، حيث اقتيد إليهم غير مرّة بعدما كان يدّعي عليه بعض العامة بالهرطقة.
القوى العجيبة
أمام الكنيسة أقرّ غريغوري بأنّه لا يُحسِن القراءة أو الكتابة، وعندما هاجمته إحدى النساء مُدّعية أنّه يُحرّف ما جاء في الكتاب المُقدّس أو بأنّ حياته كانت حياة عبث ومجون قبل أن يرتدي لباس الكهنوت، كان يردّ في المقابل، إنّه سمع صوتاً من السماء أرسله كي يُكرّز باسم الله بين الناس، ويدعوهم إلى الصلاة والتوبة.
لم يصدّق آباء الكنيسة ما قاله الرجل، لكنّه أصرّ على أنّه وبعد سماعه ما أمره به ذلك الصوت حلّت فيه قوّة جديدة، وبات يرى الأمور بشكلٍ مختلفٍ. ومّما ادّعاه كذلك أنّ بإمكانه أن ينظر في النفوس ويعرف ما يفكّر به الناس، مّما لا يريدون إظهاره. ولدى سؤاله أيؤمن بالشيطان، أجاب إنّه يشعر بأنه قريب، وأنّ الشيطان يريد منه ألا يذهب إلى حيث يأمره صوت الله.
وحدث لقاء مفصلي صُدفة، كما يُقال، بين غريغوري راسبوتين ونبيلة بطرسبورجية إسمها ماريا غرينوي، غيّر هذا اللقاء مجرى الأحداث وقاد غريغوري المنبوذ من الكنيسة المحليّة إلى العاصمة القيصرية.
رأى غريغوري ماريا في الكنيسة أمام إحدى الأيقونات، اقترب منها وقال لها: لا تقولي شيئاً، يمكنني أن أساعدك، يمكنني ذلك، وسوف تشعرين بالنعيم في قلبك، إرادة الله في قلبك.
ويظنّ الناس أن ذلك ما قاد الراهِب الغريب إلى البلاط القيصري في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1905، حيث قضى مُقرّباً من الأسرة المالِكة 12 عاماً، انتهت بإلقاء جثّته في نهر النيفا في اليوم الأول من سنة 1917، السنة التي أنهت الحُكم القيصري وأشعلت الحرب الأهلية الروسية.
مَن كان يُطلق الشائعات؟
تلك الحكايات المختلقة وغيرها تناقلها الناس عنه، بعد وصوله إلى بطرسبورغ لا قبله، كما حيكت أساطير عن علاقته بالأسرة المالِكة بين العامين 1905 و1917.
ولا بدّ من أنّ الشائعات مادة مُثيرة دسمة، خاصة إذا ما ارتبطت بحياة العائلة الأولى في إمبراطورية شاسعة، ليتناقلها العامة والصحافيون المحلّيون والأجانب بلغاتهم المختلفة فتعمّ أرجاء المعمورة، فهل قاربت الحقيقة؟ ومَن كان يُطلق كل تلك الشائعات؟
لا بدّ من معرفة أنّ تلك السنوات الاثنتي عشرة كانت الأصعب على سلالة رومانوف القيصرية، بل ربما الأكثر صعوبة في التاريخ الروسي، وهي الفترة التي تلت الحرب الروسية اليابانية (1904-1905)، وما سُمّي بثورة العام 1905، التي كانت عبارة عن موجة اضطرابات عارِمة اجتاحت مناطق شاسعة من روسيا واستمرت إلى العام 1909، فشملت عمليات اغتيال قام بها المُتمرّدون تحت عناوين مختلفة، في مقابل قَمْع السلطات لهم ولشرائح واسعة من المجتمع وإعدامات بالجملة في صفوف الشعب، وذلك بعد اضرابات عمالية واضطرابات فلاّحية وعُصيان عسكري.
أدّت الثورة إلى إعلان الملكية الدستورية المحدودة، وإنشاء مجلس دوما القيصرية الروسية سنة 1905، والنظام المُتعدّد الأحزاب، وظهور القوى الاشتراكية المنظّمة، وإعلان الدستور الجديد في العام 1906. ولحقت بتلك الفترة مشاركة القيصر في الحرب العالمية الأولى (1914-1917). وقد حصدت الفترة التي حلّ فيها راسبوتين على البلاط البطرسبورجي أرواح الملايين من أبناء شعوب روسيا القيصريّة، في ظلّ حياةٍ من الفقر المُدْقَع عاشتها عشرات ملايين الفلاّحين.
لا بدّ وأنّ كل تلك الحروب والويلات التي تحدث بعيداً عن العاصمة وتُلامسها أحياناً تمسّ الطبقات الدنيا في حياتها ووجودها، وكانت تعود بالنّفْعِ على طبقة سياسيّة – اقتصادية تتألف من السياسيّين والأمنيين وكبار العسكريين والتجار والمستثمرين، وتتوارث المناصب والثروات في العاصمة، التي تحوّل إسمها إلى بتروغراد بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى.
فعبر رَمي تلك الطبقة باللائِمة على القيصر وسلالة رومانوف في كل ما يحدث في البلاد واكتفائها بجني الثروات، كانت تتملّص من أية مسؤولية تجاه كل مآسي الناس، إلا أنها كانت تحفر ببطء نعشها بيدها وتُسرِّع في انهيار الإمبراطورية.
وكان لا بدّ لها من مادة مُشوّقة مُخيفة وصالحة للتهكّم في آن، وكانت هذه المادة متوافرة بقوّة ولا يمكن تلافيها، وهي أنّ الأسرة القيصرية قرّبت منها “مشعوذاً ريفياً همجياً غريب الأطوار يلعب بالسلطة ويؤثّر على القرارات العليا”، فاشتدّت الشائعات شيئاً فشيئاً إلى أن استعرت في الصحافة المحليّة بمعدّل كل يوم فضيحة، بعدما توجّه القيصر بنفسه إلى الجبهة ليقود الجيوش صيف العام 1915، حيث بدأت تنال من سمعة الإمبراطورة نفسها عبر علاقتها مع الراهِب الغريب الأطوار، أو عبر إيقاع راسبوتين بين القيصر والدوما حيناً وبين القيصر والكنيسة حيناً آخر.
ذلك على الرغم من أنّ راسبوتين كان قد توجّه إلى القيصر بخطاب قبيل الحرب يُعلن فيه عن أنّ روسيا تحتاج إلى السِلم، وينصحه فيه بعدم التوجّه إلى الحرب مع أيّ طرفٍ من أطرافها، والخطاب لم يخرج عن أدب النصيحة.
رأي عِلمي
تُساق فرضيّتان وراء الاهتمام الزائِد الذي حظيَ به غريغوري في البلاط الروسي، الأولى تتلخّص بأنّ إيمان القيصر نيقولاي الثاني وزوجته ألكسندرا فيودوروفنا لم يكن صُوَرياً يقتصر على الطقوس، بل كان إيماناً حقيقياً عميقاً، وكانا يستقبلان الحجّاج الجوّالين بين الحين والآخر باحثين عن أناسٍ تتّقد فيهم نار الإيمان من جهة، وليتلمّسا أحوال الرعية في بلادهما من جهةٍ أخرى.
وكانت لدى الراهِب غريغوري مهارات فعلية منها إلمامه بالفصاحة وسحر الحديث، وتمكّنه من التأثير على المُستمعين إليه، خاصة في ما يتعلّق بالأمور الإيمانيّة والغيبيّة، فانجذب إليه القيصر وزوجته كما ينجذب المؤمن إلى المؤمن.
يتناول ذلك البروفيسور ألكسي نيقولاييفيتش فارلاموف (مواليد موسكو السوفياتية 1963)، أستاذ دكتور في العلوم اللغوية، كاتب وباحث في تاريخ الأدب الروسي، والذي كان رئيس تحرير مجلة “الأدب التعليمي”، أثناء إعداده البحوث التي تستند إلى مواد أرشيفيّة صدرت تباعاً ضمن سلسلة “حياة أناس رائعين”، يحمل كل كتاب منها إسم شخصيّة، بينها الكاتِب والناشِر الروسي ميخائيل بريشفين (1873-1954)، ممثل الرومانسية الحديثة الشاعر ألكسندر غرين (1880-1932)، الكاتِب السوفياتي المعروف ألكسي تولستوي (1883-1945)، الروائي السوفياتي المُتمرّد ميخائيل بولغاكوف (1891-1940)، الشاعر والناشِر السوفياتي أندريه بلاتونوف (1899-1951)، المخرج السينمائي والمُمثّل فاسيلي شوشكين (1929-1974)، وأخيراً غريغوري راسبوتين، الذي لا يُشكّك فارلاموف بكونه روسيّاً أصيلاً، وشخصاً موهوباً بالفطرة، أضاف إلى موهبته مهارات اكتسبها أثناء تجواله في روسيا وحجّه إلى الأماكن المُقدّسة، وتأثّر الإمبراطورة بآرائه، لكنّ ذلك التأثير لم يصل إلى القيصر نفسه، الذي كان يمتلك قدراً كافياً من الصلابة، وكان يتحمّل راسبوتين في مُراعاة منه لحال طفله المريض وتأمل عقيلته بشفائه على يد الراهب.
أما الفرضية الثانية، والتي تدعمها شواهِد، فهي أنّ السبب الأساس في تقرّب الراهب من الأسرة المالِكة يكمُن في أنّه استطاع أن يُعالج جزئياً وليّ العهد ألكسي من مرضٍ نادرٍ وهو النَّزَف (عدم تخثّر الدم) وأن يخفّف من مُعاناته، وهو ما جعله على صلةٍ مباشرةٍ مع أفراد الأسرة، لكن ذلك ليس السبب الوحيد فدائرة الموضوعات المشتركة بين القيصر وراسبوتين كانت تتعدّى مرض الطفل، وفق فارلاموف في كتابه الذي يحمل إسم “غريغوري راسبوتين” (موسكو: منشورات “مولودايا غفارديا، 2008. 864 صفحة).
ويرى البعض أنّ وصول راسبوتين إلى البلاط لم يكن صدفة بل كان مُدبّراً من قِبَل آباء الكنيسة الأرثوذكسية نفسها، وذلك للتأكّد من إيمان الإمبراطورة ألكسندرا، التي اعتنقت الأرثوذكسية حديثاً وأظهرت تزمّتها بها، بعدما ولِدت وعاشت على اللوثريّة.
مَن هو راسبوتين؟
سواء أكان راسبوتين قد دُفِعَ إلى البلاط القيصري من آباء الكنيسة، أو أنّه وصل إليه شيئاً فشيئاً بعدما ذاع صيته من سيبيريا وصولاً إلى العاصمة، أو أنّه كان مُلمّاً ببعض العلوم الطبيّة التي خوّلته أن يُقدّم علاجاً مرحلياً نافعاً لطفلٍ مريضٍ هو وليّ العهد، إلا أن الرجل تمتّع بمواهب ومهارات عالية يدور معظمها في فلك الدّين والغيْب، ولا تتعدّاهما إلى السياسة العليا للبلاد أو التأثير على مراكز القرار فيها.
وتلك القرارات لها أربابها الظاهرون في المناصب العليا وسدّة الدوما أو المُختفون وراء مصالح مادية كبرى. غريغوري راسبوتين لم يكن قدّيساً وإن كان البعض قد اعتبره كذلك، ولم يكن شيطاناً وإن صوّروه كذلك، بل كان يمثل واحداً من أهم المواضيع “المصنوعة” أو “المُلفّقة” المُقدّمة بحِرَفية إلى الرأي العام عبر الصحافة المكتوبة بداية القرن العشرين.
فقد خلقت طبقة النبلاء والأثرياء حوله هالة غريبة من الشائعات، تلقّفها مجتمع العاصمة الفاسِد الساعي وراء مصالح ضيّقة، وتناقلتها الصحف اليومية والصالونات كمادّة مثيرة تنال من هيبة الأسرة الحاكِمة التي باتت تتلاشى، فسرّع ذلك صُوَرياً في انهيار الإمبراطورية التي كانت تُنازع على شفير الانهيار، سواء أكان راسبوتين موجوداً أم لا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق